نظرة على ما وراء كواليس مشروع تصميم خط ربيع
أنجذب إلى قدرة الخطوط اليدويّة على جعل التصاميم شخصيّة وفريدة. الخطوط اليدويّة التي عملت عليها حتى الآن - كخط طبشور ونسمة - خطوط مكتوبة يدويًّا، لذا تحمست لتجربة نوع جديد، ألا وهو الخطوط المرسومة يدويًا.
لتوضيخ الفرق، فإني أعني بالخطوط المكتوبة: الخطوط التي تحاكي كتابة الشخص نصًّا بيده باستخدام أداة كتابة كقلم أو طبشور. أما الخطوط المرسومة يدويًا فإني أفسرها بأنها رسم لشكل/إطار الحرف يدويًّا ثم تحويله إلى خط رقمي.
مررت بفترة في العام الماضي أُعجَب فيها بالخطوط مبالغة السماكة، وقررت أن أرسم خطًّا عربيًا، سميكًا ولطيفًا في نفس الوقت، لأخوض تجربة جديدة.
رسمت أولًا شكل الحروف في أسمك حالاتها. أتذكر نصيحة تقول أن البدء بتصميم أسمك وزن في الخط يسهل رسم بقية الأوزان لاحقًا؛ نظرًا إلى أن تكبير المساحات البيضاء في الأوزان الرفيعة بعد ضبطها في السميكة - أسهل من تصغيرها في السميكة بعد أن تُضبط في الرفيعة. تخيل أنك رسمت شكل حرف «مـ» رفيعًا أولًا. إذا سمّكت الحرف لاحقًا من الداخل، عليك مراعاة ألّا تطمس المساحة البيضاء داخل الحرف، أو تصغّرها إلى حد يؤثر على مقروئية الخط. أي أنّك قد تضطر إلى المرور بتعديلات أكثر إذا بدأت بالوزن الرفيع عند تصميم خط يدوي.
لجعل الخط أكثر عفوية، وأقل «رقمية» رسمتُ أشكالًا مختلفة لأجسام الحروف المتشابهة (مثل ج ح خ). أردت أيضًا إضافة العديد من الأشكال للحرف الواحد: مثلًا ثلاثة أشكال لحرف الجيم المفرد، حيث أنه عندما يكتب المستخدم حرف «ج» بهذا الخط يحصل على واحد من الأشكال الثلاثة عشوائيًّا. إضافة خاصية العشوائية ممكنة تقنيًا ببرمجة الخط لاحقًا لتغيير شكل الحرف حسب الأحرف المجاورة له، أو ترتيبه مقارنة بمحيطه وهكذا. على أي حال، اخترت عدم إضافة هذه الخاصية لمراعاة الحفاظ على وزن معقول لملف الخط؛ فكان لا يزال لدي كمّ من الأحرف المقرونة بانتظار إضافتها!
بالحديث عن الأحرف المقرونة، هي عبارة عن دمج لحرفين أو أكثر في محرف واحد. أي أنها أشكال خاصة تنتج عند طباعة أحرف بترتيب معين. رسمتُ العديد من احتمالات الحروف المقرونة الثنائية (دمج حرفين) والثلاثية (دمج ثلاثة أحرف) لاعتبار إضافتها في الخط. اتضح لاحقًا أن الحروف المقرونة من أجمل مميزات خط ربيع.
تختلف طريقة تحويل الرسوم اليدوية الأولية إلى رسوم رقمية «فيكتور» باختلاف الشكل المُراد لإطار الحرف «آوت لاين». أحيانًا أستخدم التحويل التلقائي في برنامج يدعم الفيكتور (مثل برنامج إلستريتور) عندما أريد الإبقاء على الخامة/الشكل اليدوي والعفوي. أما حين أهدف إلى الحصول على حدود ناعمة ومثالية للحرف، فإنني أعتبر الرسوم الأولية مرجعًا فقط أرسم عليه إطار الحروف مجددًا كمنحنيات بيزيه في برنامج صناعة الخطوط.
هذه المرة أدخلت جميع صور الرسوم الأولية إلى برنامج إلستريتور وحولتها إلى فيكتور بأداة «Image trace». اخترت أفضل أشكال الحروف من المجموعة، ثم نقلتها حرفًا حرفًا إلى برنامج فونت كريتور (FontCreator).
من عيوب تحويل الرسوم الأولية إلى فيكتور تلقائيًّا بأداة كـ «Image trace» أنها تولّد في إطار الحرف نقطًا غير ضرورية. لذلك بعد نقل كل حرف إلى الخانة الخاصة به في برنامج الخطوط، ضبطت المنحنيات حيث أني قللت عدد النقاط في كل حرف مع الإبقاء على النقاط الأساسية في أقصى أطراف إطار الحرف قدر الإمكان.
بإضافة خصائص «أوبن تايب» (OpenType features) يتحول الخط من مجرد أشكال حروف منفصلة - كما هو الحال في النص الإنجليزي - إلى حروف متصلة ببعضها صالحة للكتابة بالعربية. أحتاج في هذه المرحلة من تصميم الخط إلى تكوين كلمات وجمل بالخط لمعاينته أثناء تعديله، ومقارنة شكل الحرف بالحروف المحيطة به، للتأكد من أنه يناسب الشكل العام للخط؛ فالخط نظام يجمع حروفًا متناسقة فَضْلاً عن كونه تجميعًا لحروف جميلة فرديًّا. لذلك أضفت خصائص أوبن تايب الأساسية إلى الخط، مثل مواقع الحروف (ابتدائية، وسطية، نهائية) وتركيب ومواضع علامات التشكيل والمحارف المقرونة، ثم بعد ذلك واصلت تعديل أشكال الحروف.
سأخوض في تفاصيل أكثر عن خصائص أوبن تايب في مقالة قادمة بإذن الله.
بعد أن عدلت أشكال الحروف إلى درجة لا بأس بها، أضفت إلى الخط ما تبقى من خصائص أوبن تايب؛ ضبطتُ المباعدة في النصين العربي واللاتيني، وأضفت بدائل سياقية في النص اللاتيني لتغير شكل بعض الحروف إذا كُتبت متتالية مثلًا.
وهكذا أنهيت تصميم أول وزن في الخط، مكونًا من 838 حرف، وانتقلت إلى تصميم بقية الأوزان.
نسخت حروف الوزن السميك إلى طبقة جديدة داخل برنامج الخطوط لاستخلاص الوزن الرفيع منه. استخدمت أولًا أداة تغيير الأوزان تلقائيًّا لأحصل على الوزن الرفيع، ولكن لأن الأداة تقارن أشكال المنحنيات رياضيًّا قد تنتج أشكال منحنيات غريبة وغير جميلة. لذا لم أكتفِ باستخدام تلك الأداة، بل واصلت تعديل الوزن الرفيع بمقارنة شكله مع السميك وتحريك النقاط يدويّا في إطار كل الحروف حتى وصلت إلى شكل الخط الرفيع النهائي.
يتبع تغير شكل الحروف تغيرات في خصائص أوبن تايب أيضًا. مثلًا إذا كانت الحروف في الوزن الرفيع أقصر منها في السميك، يجب ضبط مواضع علامات التشكيل مجددًّا، للحفاظ على مسافة مناسبة بينها وبين الحروف. قيم المباعدة بين الأحرف قد تختلف أيضًا في الوزنين لأن المساحات البيضاء مختلفة فيهما، وهكذا.
إذا رسمت وزنين في برنامج الخطوط، يستطيع البرنامج توليد تدرجات أوزان وسيطة بين الوزنين يحددها المصمم. المهم أن تتساوى عدد النقاط ومواضعها في إطار الحروف في الوزنين كي ينتج البرنامج الأوزان الوسيطة بصورة صحيحة. أنتجت خمسة أوزان وسيطة بين الوزنين السميك والرفيع.
المراحل الأخيرة في تصميم الخط اشتملت على: تعديل الأوزان الوسيطة، وإنتاج خط متغير يتضمن جميع الأوزان، واختبارات متكررة للخط في نصوص بأحجام ولغات مختلفة، والتحسين المستمر.
من الأدوات المفيدة عند اختبار الخطوط «أداة النموذج العالمي» «Universal Specimen Tool». هذه أداة صنعتها شركة Rosetta Type Foundry لمساعدة مصممي الخطوط على اختبار الخطوط ومعاينتها في سياقات ونصوص مختلفة. الأداة مفيدة عند تصميم خطوط متعددة اللغات؛ وتسهل على المصمم معاينة الخط في لغات قد لا يكون على دراية كافية بها.
أضفت إلى الخط مسبقًا بضعة حروف من لغات أخرى مكتوبة بالنص العربي، كالفارسية والأردية، لتوسيع مجال تغطيته. أقارن الخط الذي صممته بخطوط أخرى في هذه الأداة، لأتأكد من صحة تركيب هذه الحروف ومقروئية الخط في اللغات الأخرى.
لا أتبع نظامًا محددًا عند تصميم صور عرض الخطوط ونشرها على مواقع مختلفة، بل أصمم صورًا جديدة لكل خط لتناسب شخصيته. هذه الخطوة تشبه صنع هوية بصرية مصغرة للخط تخصص له ألوانًا وعبارات وأحيانًا رسومًا تعبّر عن هويّة الخط.
أسميت الخط «ربيع» لسبب بسيط وهو أني بدأت تصميمه في ربيع العام الماضي! أصف خط ربيع بأنه لطيف وبريء وواضح؛ لذا حاولت عكس هذه الصورة في نماذج عرض الخط باختيار ألوان فاقعة وعبارات تشبه الأفكار الصريحة التي تجول في خواطرنا، مُدعَّمة برسوم بسيطة ولطيفة.
أعلاه تلخيص لسبعة أشهر قضيتها في تصميم خط ربيع، وتوثيق لتجربة تحويل خط مرسوم يدويًا إلى خط رقمي.
رقمنة الخطوط اليدويّة تفتح المجال لإمكانيات لا حصر لها. كانت عملية رقمنة خط ربيع تجربة جديدة في حد ذاتها، وسعيدةٌ أني خرجت منها بنتيجة مُرضية. شاهد العرض الكامل لخط ربيع النهائي.
شكرًا لك على قراءة المقالة، وأتمنى أنها ألهمتك لتجرب رقمنة خط يدويّ بنفسك! :)