Ethar Elaagib Fonts logo in Arabic

31 أكتوبر 2024

تلحين: خطٌّ يدويّ بنكهة الشَّخابيط

إلى أيِّ مدى يمكن أن يكون الخطُّ الرقميُّ عفويًّا وطبيعيًّا؟

رقمنة الخطِّ العربيِّ تحدٍّ له بُعدٌ ثقافيٌّ وتقنيّ؛ إذ أنّ على روح التُّراث أن تُحفظ، وعلى قواعد العربيَّة أن تُطَوَّع، وعلى التَّفاصيل الأصيلة ألَّا تُختزَل. تصميم خطّ يحمل روح الكتابة اليدويَّة يرفع مستوى التَّحدي درجات عندما يضيف إلى المعادلة عامل «العفويَّة.» أعني بالعفويَّة أن تبدو الكلمات والجُمل كما لو أنَّها خُطَّت يدويًّا، وألَّا توحي لعين النَّاظر أنَّها مُبَرمجة رقميًّا.

نبعت فكرة خطّ تلحين من رغبتي بتصميم خطٍّ به شيءٌ من العفويَّة وأُلفة الكتابة اليدويَّة، مثل خطِّ زميلٍ في الفصل أو خربشاتٍ سريعة على هامش دفتر قديم. أردت أن أصنع خطًّا عفويًّا، سلسًا وغير متكلّف، بعيدًا عن الإتقان الميكانيكيِّ الذي يغلُب على الخطوط الرقميَّة المعاصرة.

شخصية الخط

يُعبِّر خط اليد عمَّن كتبه، ويُمثِّل بصمة تميزه عمَّن سواه. إلّا أن خطَّ الكتابة - بخلاف بصمة الأصبع - ليس دائم الشَّكل؛ فالأساس أنه يتحول بمرور الزمن، بل أنه يختلف باختلاف سرعة الكتابة وحتى باختلاف مزاج ومشاعر كاتبه في تلك اللحظة. قد يكون خط الشَّخص في الصباح مختلفًا عن خطه في المساء، وقد لا تُشبه كتاباته اليوم كتاباته بعد عام أو بضعة أعوام.

يراودني تساؤل دائم عندما أحاول رقمنة خط يدويّ: إذا كان الخط في جوهره خاصيَّة متغيّرة، كيف أستطيع تحديد هويَّة «خط يد» شخص معيَّن؟ هل هو تلخيص لأسلوبه الغالب في الكتابة، أم أنه توثيق للحظة زمنية مُحدَّدة؟ كيف لي أن أُجسِّد هويتي الخطّية في قالب رقمي ثابت بينما خطي في تحوُّل دائم؟

من البديهيِّ أن هويَّتي الخطِّية — كجزء من شخصيّتي — تتغيُّر باستمرار؛ فطالما تتغيَّر شخصيَّتي بمرور الزَّمن وتراكم التَّجارب، ينعكس ذلك على تفاصيل حياتيَّة مثل طريقة تفكيري، وتعامُلي مع العالم الخارجيّ، وذوقي واختياراتي، وخطِّ يدي.

تخيّلت في هذا المشروع أنِّي ألتقط صورة فوتوغرافية أُجمِّد فيها مرحلة محددة من تطور خط يدي. عندما يلتقط المصوِّر صورة لشخص ما، فإنه يختار زاوية التصوير والإضاءة بعناية لتعكس أفضل ملامح له، أو لتنقل إحساسًا مقصودًا عبر عدسة الكاميرا. وعلى نحوٍ مشابه، راقبت أشكال الحروف التي أرسُمها في كتاباتي اليوميَّة في ظروف مختلفة لأحدِّد هويَّة هذا الخطِّ - عندما أُسرِع وعندما أتأنَّى، وعندما أركِّز على كلمة واحدة وعندما أكتب نصوصًا طويلة. وجدتُ توازنًا بين انسيابيَّة القلم وتناسق الحروف، حيث راقني أن الخطَّ حيٌّ وديناميكيٌّ به شيءٌ من العشوائيَّة المدروسة.

بين الأداة والإيقاع

جرَّبتُ بضعة أقلام كي أختار أداةً تُبرِز تفاصيل خط يدي وتُبقي على انحنائاته الطبيعيَّة. بدأتُ من أقلام الحبر الجافَّة إلى السائلة، ومن السَّماكات الرقيقة إلى الثَّخينة. لاحظتُ تأثير نوع القلم على انحناءات أشكال الحروف ومرونتها، وتباين في السَّماكات لكل نصٍّ على الصَّفحة. النُّصوص المُسطَّرة بأقلام جافَّة بدت واضحةً ودقيقةً - وجدتها تفتقر إلى الانسيابيَّة التي أنشُدها في هذا الخطِّ، في حين أن الأقلام السائلة أتاحت المجال لمرونة أكبر، لكنها خلقت تفاوتات كبيرة في سماكة الخطِّ. استقرَّ اختياري في النِّهاية على قلم رسم وتحديد سائل بقطر 0.3 مم، حيث إنّه وازن بين الدِّقة والعفويَّة، وتجاوب شكل الحروف المخطوطة به مع ضغط القلم وإيقاع الكتابة الطبيعيَّة بشكل متناسق.

نبع اسم الخطِّ من هذه النُّقطة. أثناء اختياري المعيار الذي يحدِّد روح الخطِّ وأداة الرَّسم، وجدتني أميل إلى الاهتمام بالإيقاع البصريِّ للخطِّ، وفي تدفُّق الحروف بتناغم، ومن ثمَّ استوحيت اسم «تلحين» ليجسِّد هذا الإحساس.

رسومات أوَّلية

على كرَّاسة رسمٍ رسمتُ الحروف وتنويعاتها بسُرعة كسرعة الكتابة الطبيعيَّة، وبعد تجارب وتعديلات تهدُف إلى مُحاكاة حركات يدي في الكتابة دون تكلُّف، وصلتُ إلى تشكيلة من حروفٍ توازنُ بين العشوائيَّة والتَّنظيم، حيث لم يطغَ شكلٌ على آخر. ولإضفاء بعضٍ من الفوضى اليدويَّة الجميلة، جرّبت تضمين شخبطاتٍ بسيطة مثل الأسهم والنجوم والرموز الصغيرة التي تتَّسق مع المظهر العام للخطِّ. صُمِّمت هذه الشخبطات لتُناسب كتابات غير رسميَّة أو مُنمَّقة، حيث أدرجها لاحقًا في الخطِّ لتظهر تلقائيًّا برموز معيَّنة في سياقات محدَّدة.

رقمنة الرسومات

بعد أن نقلتُ الأشكال إلى برنامج صناعة الخطِّ «فونت كريتور،» عدَّلتُ تفاصيل الرَّسم لتناسب متطلبات الخطِّ الرقميِّ وتظهر الحروف كمجموعةٍ واحدةٍ بتباين سماكات وأحجام متقاربة. وبعد أن أنشأت جميع المحارف الحاليَّة في البرنامج، حانت مرحلة مراجعة الخطِّ ككُلّ والتَّأكد من انسجام الحروف كمجموعة. كان لا بدَّ من أن أضبط كل حرفٍ لئلّا يتصادم مع الحروف المجاورة له أفقيًّا ورأسيًّا. وبما أنَّ أشكال الحروف في الخطِّ متنوِّعة، فقد ظهرت تداخلاتٌ بين الحروف وعلامات التَّشكيل في حالات مُعيَّنة، ولذا خصَّصت قواعد إضافيَّة لتفادي هذه التَّداخلات وضمان سلاسة القراءة.

حروف مركبة وأشكال بديلة

أدركت أن تراصُف الحروف جنبًا إلى جنب قد لا يكفي لتفادي الرَّتابة الرقميَّة. أردت أن تنسجم الحروف بطرق أقرب إلى الكتابة اليدويَّة، فأضفتُ تنويعات للأحرُف المركَّبة تجمع حرفين أو أكثر في شكل واحد، مثل «في،» و«ثم» بحيث تطرأ تغييرات طفيفة على شكل الحروف استنادًا إلى السياق الذي تظهر فيه.

أضفت أشكالًا بديلة إلى جانب الأحرف المركَّبة لتمنح المستخدم خيار تنويع أشكال الحروف في سياق النَّصِّ الذي يكتبه. كما يوحي به اسم هذه الخاصِّيَّة، فإنَّها تُبدِّل بعض الحروف بأشكال مختلفة بما يتناسب مع الحاجة أو الذَّوق الشَّخصيِّ. على سبيل المثال، يمكن للمستخدم أن يختار شكل حرف الكاف الوسطيَّة من شكلين يشبه أحدهما الكاف السَّيفيَّة، والآخر أقرب إلى الكاف الزّنادية في الخطوط التَّقليديَّة. من الأمثلة الأخرى شكل النُّقط في الحروف؛ أضفت خيارات تتيح للمستخدم اختيار التبديل بين النقطتين المتباعدتين، أو المتلاصقتين، أو المتراصّتين رأسيًّا فوق بعضهما. وبالنسبة للثلاث نقاط، يمكن أن تُبدَّل بين المنفصلة أو المتصلة لكسر الرَّتابة في الخط.

تضمين الرموز

مشروع خط تلحين محاولة لإحياء تجربة الكتابة اليدويَّة بما تحمله من فوضى جميلة؛ ولا تكتمل هذه التجربة بدون خرابيش عفويَّة تتخلَّل النُّصوص وتحاوِطها. اخترت من الرُّسومات الأوَّليَّة بضعة رُموز كوجه مبتسم وقلب ونجوم وخطوط تزيينيَّة تلائم الخطَّ الرقميّ. حرصت على أن تصبح هذه الشخبطات جزءًا طبيعيًّا من تجربة الكتابة، فبرمجتُها لتظهر تلقائيًّا في سياقات معيَّنة. على سبيل المثال، عندما يكتب المستخدم كلمة تليها -- (شرطتان متتابعتان)، يظهر خطٌّ تحت تلك الكلمة تلقائيًّا، وعندما يكتب كلمة *زهرة*، تُرسَم زهرةٌ بأسلوب الخطِّ نفسه بجانب النَّصِّ المكتوب. الفكرة كانت أن تمتزج هذه الرُّموز بسلاسة مع النص فتُضفي لمسة شخصيَّة، دون أن يحتاج المستخدم إلى إدراج رموز يدويًّا.

طوَّرت بعض هذه الرُّموز باستخدام تقنية الخطوط المتغيِّرة «Variable Font»، ممَّا يُسهِّل على المستخدم أن يتحكَّم بعرضها بدقة. فمثلًا، يمكن أن تُمَطَّ الخطوط أسفل الكلمات لتناسب طولها، وأن تُمَدَّ الأسهم بين النصوص لتملأ المساحة المتاحة لها.

تحسينات لا نهائيَّة

تنقيح الخطِّ الرَّقميِّ عمليَّة مستمرَّة تقتضي الاهتمام بالتَّفاصيل والبحث الدَّؤوب عن حالات اختلال التَّناغم بين الحروف والرُّموز في الخطِّ. أستخدم نماذج متنوِّعة من النُّصوص لاختبار تفاعل توافيق مختلفة بين الحروف مع بعضها، وأعدِّل أشكال الحروف والمسافات بينها كلَّما تطلَّب الأمر. أحتاج أحيانًا إلى أن أضيف أشكالًا جديدة لبعض الحروف لتناسب حالات خاصة.

من أولوياتي في هذه المرحلة تحسين مقروئيَّة الخطِّ في أحجام مختلفة، والمحافظة على تناسق الحروف في النُّصوص الطَّويلة. تُصنَف الخطوط عادةً إلى نوعين حسب الاستخدام: «خطوط نصوص - Text fonts،» وتُستخدم في النُّصوص الطَّويلة وتتميَّز بالبساطة وسهولة القراءة، و«خطوط العرض - Display fonts،» وتُستخدم في العناوين والنُّصوص القصيرة ولها طبيعة زخرفيَّة تشدُّ انتباه القارئ. لا أميل إلى حصر استخدام تلحين وتصنيفه كـ «خط نصوص» يُستخدم في النُّصوص الطَّويلة أو «خط عرض» يُستخدم في العناوين أو النُّصوص القصيرة، بل أرغبُ في تعريفه كخطٍّ مرنٍ يصلح للاستخدام في سياقات عديدة. أحد أهداف تلحين أن يكون خطًّا مريحًا للعين، ومُميّزًا في ذات الحين. لذا أمضيتُ وقتًا طويلًا في تكرار الرَّسم والمُوازنة بين تفاصيل الحروف، حتَّى أصنع خطًّا يصلُح للاستخدامات اليوميَّة، طبيعيَّ الانسياب، ويمتاز بوُضوحه بصريًّا.

خطط مستقبليَّة

أرى لخطِّ تلحين مكانًا في سياقات تتجاوز الاستخدامات التَّقليدية، مثل المشاريع التي تتطلَّب تفاعُلًا بصريًّا بين النَّص والمحتوى، أو التصاميم التي تتعلَّق بأسلوب الحياة أو القصص الشخصيَّة، أو تطبيقات الكتابة الرقميَّة، أو الأدوات التي تُخاطب صنَّاع المحتوى. يمكن أن يزيِّن الخط صفحات الكتب والمجلَّات التي تركِّز على الفنِّ أو الثقافة الشعبية، أو يشكِّل حجر الأساس لهويَّات بصريَّة لعلامات تجاريَّة تسوِّق منتجات فنيَّة أو حرفيَّة. يناسب الخطُّ أيضًا تصاميم المناسبات، وملصقات الفعاليَّات، والقرطاسيَّة كدفاتر المذكِّرات والرُّزنامات، وكتب الأطفال الملوَّنة. وفي عالم الاحتمالات غير المحدودة، لا تستغرب إن صادفك الخطُّ في مُلصق عن البسبوسة، أو حتَّى في نظام تصميم متجر إلكترونيّ كامل.

في جُعبتي خططٌ لتطوير تلحين بمزيدٍ من الرُّموز والزَّخارف والكشائِد، وتنويع أشكال الحروف، بل وأطمح إلى تطوير الخطِّ اللَّاتيني المُتوافق. هدفي أن يكون تلحين خطًّا مُتكاملًا صالحًا لمُختلف الاستخدامات، وأن أقتربَ قدر ما أستطيع من الصُّورة الَّتي أتخيَّلُها للخطِّ «العفويّ.» تصميم الخطوط الرقميَّة عمليَّة تحسين وتطوير دائمة مع كلِّ استخدام جديد للخط. وهذا ما يُحوّل الخطوط إلى تجربة حية تتكيف مع كل سياق تُستخدم فيه.

أخيرًا، جميع الأسئلة والاقتراحات تعني لي الكثير وتدفعُني لإثراء الخطِّ والتطوير المستمرّ :) وإن كنت ترغبُ بمتابعة أخبار الخطّ، سجّل في القائمة البريديَّة لأُعلِمك فور صدوره.